الحركات الإسلامية وإشكالية العمل الحزبي/ المختار نافع

من الجوانب الجديرة بالتوقف في دراسة العلاقة بين الدعوي والسياسي في تجربة الحركات الإسلامية؛ الإشكالاتُ التي نتجت عن اتخاذ هذه الحركات للأحزاب أطرا لعملها السياسي بعد أن كانت تفضل القيام به من خلال أطر أخرى مثل الأقسام والمكاتب السياسية الداخلة في هيكلة الحركة نفسها، بل إن بعض هذه الحركات كان يقبل كل المنظومة السياسية المعاصرة باستثناء الأحزاب، مثل حركة الإخوان المسلمين المصرية في فترة مؤسسها “حسن البنا” الذي يرى الدكتور “يوسف القرضاوي” أن من دعائم التربية السياسية لديه: “الترحيب بالنظام الدستوري {و} التنديد بالأحزاب والحزبية”([1])

 

فهذا اللجوء الاضطراري إلى الأحزاب الموازية للحركات بدل الأقسام السياسية التابعة لها –وإن اختلفت درجة الاضطرار من حركة إلى أخرى بحسب الموقف الأصلي من العمل الحزبي- نشأت عنه إشكالات من نمط معين تختلف عن الإشكالات التي يسببها العمل السياسي للإسلاميين بشكل عام، وسبب هذا الاختلاف كون الأحزاب مؤسساتٍ كبيرةً تكاد تحجب الحركات الإسلامية التي أسستها، على عكس العمل السياسي الذي يدار من خلال مكتب سياسي أو دائرة سياسية ضمن الحركة أو الجماعة، والدليل على ذلك أن الحركات الإسلامية التي استطاعت –لسبب أو لآخر- الاستمرار في ممارسة السياسة من خلال أقسامها السياسة –مثل حركة حماس وحزب الله اللبناني- لم تبرز لها إشكالات العمل الحزبي، وإن برزت لها إشكالات أخرى

 

بعبارة أخرى فإن ما تسعى هذه المقالة له هو أن ممارسة الإسلاميين للسياسة من خلال الأحزاب تنجم عنه إشكالات أو تحديات معينة تختلف عن تلك التي تنجم عن ممارستهم للسياسة من خلال الأقسام واللجان السياسية المنضوية تحت حركاتهم التنظيمية، هذا دون الدخول في تفضيل خيار من هذين الخيارين على الآخر، فلا كاتب المقالة بالقادر على هذا التفضيل ولا هو بالراغب فيه لإدراكه بنسبية الصواب والخطأ ومعرفته بأن التوجهات العملية للكيانات السياسية تلعب فيها الظروف العامة في بلدانها والبلدان المؤثرة عالميا دورا بالغ القوة.

 

وللتدليل على هذه الفرضية سنعرض في ما يلي العوامل التي أدت بالإسلاميين إلى العمل السياسي من خلال الأحزاب، ثم مظاهر الإشكالات التي نتجت عن هذا التوجه، وأخيرا نستشرف المآلات المستقبلية التي قد تسلكها الكيانات الإسلامية في التعاطي مع هذه الإشكالات.

 

أولا: في أصل المسألة

نشأت الحركات الإسلامية –ككل الحركات الإيديولوجية- بطريقة تختلف في سياقها وأهدافها وآلياتها عن الأحزاب السياسية؛ فالأحزاب نشأت –في الغرب الليبرالي- كيانات مفتوحة تهدف إلى الوصول للسلطة عن طريق الانتخابات، أما الحركات السياسية فنشأت ككيانات نخبوية تهدف إلى التغيير الاجتماعي الشامل الذي تحتل فيه السلطة مكان الوسيلة لا الهدف.

 

وهذا الفارق الجوهري يشرحه “هوفر أريك” في كتابه “المؤمن الصادق” بالقول: “هناك فارق أساسي بين جاذبية الحركات الجماهيرية وجاذبية المنظمات العملية -كالأحزاب السياسية التقليدية والنقابات والتجمعات المهنية- {إذ} تقدم المنظمة العملية لأعضائها فرصا لتطوير الذات، وتكمن جاذبيتها في تحقيق المصلحة الذاتية لأعضائها. وعلى النقيض من ذلك نرى أن الحركة الجماهيرية، خاصة في مرحلتها الأولى النشطة، لا تجذب أولئك الذين يحبون أنفسهم ويحرصون على تطويرها، بل تستميل أولئك الذين يودون أن يتخلصوا من أنفسهم نهائيا”([2]).

 

وهذا الاختلاف بين الكيانات الحزبية وبين الكيانات الحركية ظل ساريا في الفترة التي بقيت فيها الثانية على أصل نشأتها، غير أن سيادة التوجه الليبرالي على المستوى العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينات القرن الماضي، وتبني كثير من دول العالم للنموذج الديمقراطي الحزبي جعلا الحركات السياسية تنشئ أحزابا سياسية تحمل مشاريعها وتنافس بها في الميدان السياسي.

 

 ومن هنا وجدت هذه الحركات نفسها في الوضعية التي يقع فيها أيُّ كيانٍ تَحَوَّلَ من حالِ نشأته الأولى التي اعتادها إلى حالِ تكيفٍ فرضتها عليه ظروف لا دور له في صنعها.

 

ولا نريد أن نجازف بتعميم هذا الخلاصة على كافة الحركات السياسية في بلاد العالم الثالث التي تحولت إلى أحزاب نتيجة قصور الاطلاع على واقعها جميعا، ولكن يمكن أن نقول –مع استحضار نسبية الأحكام التعميمية- أن ذلك هو ما وقع للحركات السياسية في العالم العربي يسارية أو قومية أو إسلامية، مع اختلاف مظاهر الإشكالات التي نتجت عنه طبعا.

 

وسنستعرض في الفقرة الموالية ما يخص الإشكالات الناجمة عن تبني الحركات الإسلامية للعمل الحزبي الذي هو موضوع هذا المقال.

 

ثانيا: إشكالات التحول

نشأت عن تبني الحركات الإسلامية للعمل الحزبي مع إبقائها على وجودها التنظيمي، حقيقة أو حكما، ازدواجيةٌ مؤسسية أدت إلى ظهور عدد من الإشكالات لم تجد معالجة جذرية حتى الساعة رغم إحساس قوي بها لدى قيادات ومنظري هذه الحركات، وصياغتهم لهذه الإشكالات في تساؤلات متعددة يلخصها سؤال: كيف تتم المحافظة على الجوانب الإيجابية في التجربة الحركية ذات الطابع النخبوي، مع الحصول على مزايا العمل الحزبي المنفتح على الجمهور.

 

 وبرأيي فأكبر الإشكالات الناجمة عن هذه الازدواجية هي ثلاثة إشكالات:

 

أ: إشكال التربية الفكرية: قدمت الحركة الإسلامية تجربة ثرية في تربية أبنائها فكريا تقوم على تحقيق أكبر قدر ممكن من التجانس الفكري في كبريات المسائل النظرية دون الحيلولة دون الاختلاف الطبيعي، وكان لهذا المستوى من التجانس دور كبير في امتلاك الأحزاب الإسلامية لواحد من أهم ضمانات نجاح الأحزاب؛ ألا وهو امتلاك رؤية سياسية جامعة، فكنت ترى قادة هذه الأحزاب و ناشطيها متفقين، في المجمل، في تقدير الظروف التي يعارضون فيها والأحوال التي يحالفون الأنظمة أثناءها، كما تجدهم متفقين على معايير الترشيح والتحالف السياسي مع الأحزاب والكيانات الأخرى.

 

إلا أن استقطاب الأحزاب الإسلامية لنخب أخرى وحضور تأثير الجماهير فيها لم يوازه بروز آليات تستطيع بها الحركة الإسلامية أن تنقل رؤيتها الفكرية إلى هذه النخب غير الحركية، ونتج عن ذلك أن فاعلين جددا لا يمتلكون نفس الرؤية أصبح لهم تأثير في الأحزاب الإسلامية.

 

هذا فضلا عن أن تسارع المتغيرات السياسية، وعدم كفاية التربية السياسية النظرية التي قدمتها الحركات الإسلامية قديما –وما زال بعضها يقدمها في البلدان التي حافظت فيها الحركات على وجود فعلي – أضعفا الوحدة الفكرية لدى قادة الأحزاب الإسلامية أنفسهم.

 

ولعل أول ظهور لهذا الإشكال كان في الجبهة الإسلامية في السودان، فرغم قوة الأداء الفكري للحركة الإسلامية هناك، ورغم محاولة الجبهة أن يكون لها دور تربوي مستفاد من تجربة الحركة؛ لكن هذا الإشكال برز بقوة وظلت الجبهة مجرد كيان سياسي.

 

وفي اليمن “عملت الحركة الإسلامية –قبل إعلان حزب التجمع اليمني للإصلاح- ومنذ نشأتها على تربية أعضائها والاهتمام بثقافتهم وتزكية أرواحهم، وصقل مواهبهم، إلى أن جاءت الوحدة وإعلان التجمع اليمني للإصلاح فبدأت تتقلص مساحة الاهتمامات الثقافية والفكرية للأعضاء لتتسع مساحات الاهتمامات بالعمل السياسي العام”([3]).

 

ب: إشكال الانفتاح الشعبي والقيادي: تأسست الأحزاب الإسلامية بواسطة قيادات من الحركات الإسلامية وكان جمهور ناشطيها بالأساس من كوادر هذه الحركات، ورغم أن ذلك منحها قوة التجانس والثقة بين عناصرها، إلا أنه حرمها من تجديد دماءها واستيعاب طاقات جديدة بعضها شباب يحملون نفس الفكر الإخواني الذي تمتاح منه الحركات الإسلامية إلا أنهم لم يتح لهم الانتماء لها لسبب أو لآخر.

 

كما أن هذا الأمر حرم الأحزاب الإسلامية من استيعاب شخصيات سياسية ذات تأثير كبير في المجتمع ولها شعبية كان إعطاؤها مكانة قيادية سيحول هذه الأحزاب إلى أحزاب وطنية لها أكثر من رافعة.

 

غير أن كثيرا من قادة هذه الأحزاب يرون أن الانفتاح الواسع يحولها إلى مجرد تجمع لأشخاص من ذوي النفوذ قد يكون بعضهم مرتبطا بالدوائر الأمنية وبعضهم توجهه مصالحه الشخصية.

 

لذلك اقتصر انفتاح هذه الأحزاب على ترشيح أشخاص من غير ذوي الانتماء الحركي للمناصب الانتخابية وإدماج شخص أو اثنين في قيادة الحزب التنفيذية.

 

ولعل أوضح مثال على واقع هذا الإشكال هو حزب العدالة والتنمية المغربي، فمع انفتاح هذا الحزب وحرصه على الابتعاد عن الانغلاق الحركي فإن قادته السياسيين ظلوا هم نفس الأشخاص الفاعلين في تاريخ الحركة الإسلامية المغربية منذ السبعينات.

 

وقد تعرض الكاتب المغربي امحمد الهلالي لواقع هذه الإشكالية عند حزب العدالة والتنمية معبرا عنه بثنائية “ملكية المناضلين وتملك الجماهير”.

 

ويرى الكاتب أن هذه الإشكالية معروفة داخل حزب العدالة والتنمية وأن النقاش حولها يتمظهر في شكلين: أحدهما النقاش حول ثنائية الانفتاح على الأعيان مقابل الاقتصار على المناضلين، والشكل الآخر هو النقاش حول الانفتاح على الجماهير مقابل الاقتصار على الأطر([4]).

 

ج: إشكالية “تسيس” الخطاب: من الميزات الأساسية التي كانت تتحلى بها الحركات الإسلامية قوة حضور الهوية الحضارية للأمة في خطابها وبروز خلفيتها الفكرية في تحليلاتها للواقع واستراتيجيتها للمستقبل، غير أن التجربة الحزبية سحبت الكثير من هذه الميزة، وأصبح خطاب الأحزاب –الذي احتل مكانة أكبر من خطاب الحركة بفعل جاذبية السياسة و الحضور الإعلامي للسياسيين- متسيسا ليس فقط في موضوعاته وإنما حتى في خلفياته الفكرية حيث ظهر التأثر بخطاب الحداثة السياسية وانشغالاتها، وقد اخترت التعبير عن هذا التغير في الخطاب بالتسيس اشتقاقا من الطابع السياسي البحت وعدلت عن التعبيرات التي يستخدمها طرفان من الإسلاميين مدحا لهذا التغير أو قدحا فيه من قبيل “خطاب التدبير” عند المادحين أو “خطاب التخلي عن الخصوصية” عند القادحين.

 

ولعل مقارنة بين خطاب حركة النهضة التونسية في جذورها الأولى وبين خطابها حاليا تظهر هذا التحول.

 

فقد جاء في البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي –وهو الاسم الذي عرفت به حركة النهضة في بداية الثمانينات- الصادر في يونيو 1981 أن أهدافها هي:

 

(أ: بعث الشخصية الإسلامية لتونس.

 

ب ـ تجديد الفكر الإسلامي على ضوء أصول الإسلام الثابتة ومقتضيات الحياة المتطورة.

 

ج ـ أن تستعيد الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيدا عن كل وصاية داخلية أو هيمنة خارجية.

 

د ـ إعادة بناء الحياة الاقتصادية على أسس إنسانية وتوزيع الثروة بالبلاد توزيعا عادلا على ضوء المبدأ الإسلامي “الرجل وبلاؤه، الرجل وحاجته”.

 

هـ ـ المساهمة في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام)([5]).

 

أما المؤتمر التاسع لحركة النهضة الذي انعقد في يوليو 2012 فقد كانت أبزر خلاصاته:

 

(أ: تأسيس دولة مدنية راسخة الأركان تنهل من قيم الإسلام ومن كل خبرة بشرية جربت فصحت.

 

ب: ترسيخ مبدأ الشراكة في الحكم بين القوى الوطنية الأساسية.

 

ج: تحقيق القطيعة التامة مع منظومة الحكم الفردي الاستبدادي.)([6])

 

وفضلا عن الفروق الواضحة في صوغ الأهداف في البيانين؛ فإن التشخيص العام الذي يقدمانه يختلف كثيرا؛ سواء من حيث المضمون أو من حيث الحمولة الفكرية للمفردات المستخدمة فيه.

 

ثالثا: مسارات المستقبل

وعلى ضوء هذا التشخيص يرد السؤال: كيف سيواجه الإسلاميون مستقبلا هذه الإشكالات الناجمة عن ما يمكن تسميته “الازدواجية المؤسسية بالفعل أو القوة” بين الحركات والأحزاب؟

 

أرى –والله أعلم- أن المسارات الممكنة تكاد تنحصر في ثلاثة هي:

 

أ: ترسيخ الطابع الحزبي والسياسي للأحزاب: من خلال تبن استراتيجي للانفتاح الجماهيري والتحالف مع قوى أخرى تدخل الحزب وتمده بقيادات سياسية غير مؤدلجة على غرار تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، وهذا المسار يقوم على إعادة تأسيس لهذه الأحزاب لتكون أشبه بالأحزاب التقليدية.

 

ب: تبني الحزب لبرامج تثقيفية وتكوينية لمنتسبيه؛ للرفع من مستوياتهم الفكرية وتقوية اللحمة التنظيمية بينهم، مع استمراره في العمل السياسي الجماهيري، أي العمل على أن يحتفظ الحزب بما يمكنه من مهام الحركة الأم.

 

ج: الرضى بالوضعية القائمة؛ من خلال المقارنة بين السلبيات الناجمة عنها وبين الإيجابيات المتولدة من الطابع المزدوج لهذه الأحزاب، وترك الترجيح بين السلبيات والإيجابيات للسيرورة التاريخية.

 

وإذا كان العامل الأبرز في ترجيح هذه المسارات هو العامل الداخلي، أي اختيار الحركات الإسلامية والأحزاب المنبثقة عنها لواحد من هذه المسارات إلا أن العامل الخارجي له دور مهم جدا. فالظروف السياسية العامة في البلدان العربية والإسلامية هي التي ستدفع الإسلاميين إلى تبني خيار بعينه، فكلما كانت الظروف أكثر ديمقراطية كان الخيار الأول أكثر ورودا، وكلما كانت أقل ديمقراطية كان حظ الخيار الثاني أوفر، أما الخيار الثالث فسيدفع إليه استمرار تبني الأنظمة للهامش الديمقراطي المتحكم فيه.

 

[1] القرضاوي، يوسف: التربية السياسية عند الإمام حسن البنا، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى 1428، 2007 ص 13

 

[2] هوفر، إيريك: المؤمن الصادق (أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية) ترجمة غازي القصيبي، هيئة أبو ظبي للثقافة، الطبعة الأولى 2010، ص 35.

 

[3] حسان، عبد القوي: الحركة الإسلامية في اليمن (دراسة في الفكر والممارسة) التجمع اليمني للإصلاح نموذجا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2014

 

[4] الهلالي، امحمد: “حزب العدالة والتنمية بين ملكية المناضلين وتملك الجماهير”، موقع هبة بريس منشور بتاريخ 24 أغسطس 2018، تاريخ التصفح 22/9/2021، عند الساعة 11:37.

 

[5] البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي بتونس، منشور على موقع: إخوان ويكي، بتاريخ 17/5/ 2011، تاريخ التصفح 22/9/2021، عند الساعة 11:37

 

[6] البيان الختامي للمؤتمر التاسع لحركة النهضة، منشور على موقع النهضة بتاريخ 23 يوليو 2012 تاريخ التصفح 22/9/2021، عند الساعة 

نقلا عن موقع أواصر